الأمن الإلكتروني كمقاربة جديدة للدراسات الأمنية المعاصرة

in #security2 years ago (edited)

Washington-Crossing-the-Delaware.jpg

Washington Crossing The Delaware (~1851) - By Emanuel Leutze (1816-1868)

أهلا بالجميع،

إذا ما نظرنا إلى تطور المعرفة الإنسانية المدونة، يمكننا أن نرى أنه هناك تراكم معرفي على مختلف الأشكال والمواضيع، ولكن إذا ما نظرنا أكثر وتمعنا في القواسم التي تجمع هذه المعلومات المتراكمة، يمكننا أن نرى وجود أنساق مختلفة وقواعد مجسدة تُعد كثوابت أو نوًى ثابتة ومركزية من ناحية وجودها، أو من ناحية الأفكار التي تعبر عنها ومدى أهميتها بالنسبة للإنسان، ولكن في المقابل يمكننا أن نجد أن تطور كل ما يدور في فلك هذه الثوابت في تغير مستمر وهو عرضة بنسبة كبيرة للتأثر والتَغير انطلاقا من هو موجود في محيط الخارجي، ولكن رغم هذا فإن ما يتغير هنا، ليس النواة أو تلك الثوابت، وإنما الطريقة التي أصبح ينظر الناس بها إلى تلك الثوابت وطرق تحقيقها. يوضح عالم الطبيعة والجيولوجيا تشارلز داروين (Charles Darwin) في كتابه التعبير عن العواطف عند الحيوان والإنسان (The Expression of the Emotions in Man and Animals) والذي نشر سنة 1872 أنه هناك بعض الثوابت التي تتعلق بالطبيعة البشرية ويتكلم عن الكيفية التي يعبر بها عن بعض عواطفه، ويؤكد على أن تلك التعابير هي تعابير مشتركة بين البشر، ويقول داروين أن ذلك ثابت حتى عند بعض القبائل النائية التي درسها والتي حسبه لم تتواصل مع الحضارة الغربية الأوروبية من قبل؛ كما يذهب عالم الأعصاب دوشين بولون (Duchenne Boulogne) الذي تأثر به تشارلز داروين إلى أبعد من ذلك ففي كتابه ميكانيزمات الملامح البشرية (Mechanism of Human Physiognomy) الذي نشر سنة 1862؛ يضع هذا الأخير مجموعة ثابتة من الملامح البشرية التي يقوم بها الإنسان مثل الحزن أو الفرح وفقا للحركات الصغير أو الجزئية (Micro Expressions)، وبذلك فهو لا يربط هذا السلوك والتفاعل الجسدي الذي يستند إلى الملامح (Interaction Physiognomy) بعملية منظمة للتلقين السلوكي وإنما هي عملية غريزية وطبيعية في الإنسان كما هو موضح في دراسات الأنثروبولوجيا البيولوجية (Biological Anthropology) لبعض العلماء الذي تم ذكرهم والتي لها علاقة مباشرة بالسلوك الإنساني. من الواضح مما سبق أنه هناك بعض الثوابت والمزايا التي تشكل في مجملها الطبيعة الإنسانية في حد ذاتها، ولا يمكن أن تتغير بحكم أنها تجسد التركيبة الفيزيوبيولجية للجنس البشري.

كذلك الأمن؛ فالأمن يعد أحد أعقد المفاهيم التي يمكن تناولها من اجل دراسة الظاهرة الإنسانية، فمن ناحية فهو يعد ظاهرة تراكمية لها علاقة مباشرة بالمشاعر أو التقدير الذهني الإنساني لما هو حيوي أو غير حيوي ، ومن ناحية أخرى، تعد فكرة الأمن كما عرضنا سابقا أحد الظواهر الإنسانية المركزية التي لها أبعاد تتعلق بذهنيات الأفراد في فهم الأمن والعمل على تحقيقه(الشعور بالأمان وتحقيق الرغبات كسلوك مشترك بين البشر)، إلى أبعاد مادية يمكن أن تكون وسائل مادية يستعملها الإنسان لتحقيقه، أو أن تكون ظواهر مادية خارجة عن سيطرة الإنسان ولا يمكنه التحكم فيها (الظواهر الطبيعية)، بالإضافة إلى هذا يمكننا أن نرى أن الأمن يعد من المفاهيم التي لها علاقة وطيدة بالزمن وبما هو موجود حاليا، إذ أنه يتفاعل مع المدخلات التي تأتي من المحيط وتتغير وسائل تحقيقه، كما تتغير الأولويات التي كانت من قبل من المسلمات إلى أفكار جديدة وأولويات جديدة يهدف إليها الإنسان من أجل تحقيق الأمن. إلى جانب هذا يمكننا أن نرى التداخل الموجود بين الأمن ومفاهيم أخرى، إذ يمكن أن يكون هذا التداخل ذو صيغة تكاملية تلعب في نفس سياق ما يطرحه الأمن (تجاوب المفهوم مع مفاهيم مثل المصلحة والسيطرة والقوة)، أو يمكن أن يكون ذو صيغة تصادمية؛ ويعبر عن هذه الفكرة(التصادم) مثلا في تكلمه عن الديمقراطية والحرية حيث يقول القائد العسكري ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق دويغ دايفيد ايزنهاور (Dwight D. Eisenhower) في كتابه عهدة من أجل التغيير (Mandate for Change) الذي نشر سنة 1963:

"إذا أردتَ الأمن المطلق، اذهب إلى السجن. فهناك سيتم إطعامك، وإلباسك، وإعطائك الرعاية الصحية. إلى غير ذلك. الشيء الوحيد الناقص أو المفقود ... هي الحرية".

فإذا نظرنا إلى مرور الحقبات التاريخية، يمكننا رؤية أن الأمن يعد أحد ابرز الأدوات السياسية التي استعملها الإنسان من أجل تحقيق مختلف المصالح التي يهدف إليها، وقد استمر هذا التفاعل المتبادل بين المركز (الأمن) والمحيط (مختلف التطورات التي لها اثر مباشر على تحديد الأمن) إلى الوقت المعاصر، وسيستمر مستقبلا كون الأمن له علاقة مباشرة بأبسط (من ناحية الوقاية) ما يمكن أن يؤدي إلى ضرر أو إلى نوع من الإكراه المادي أو المعنوي بين البشر، أو بين البشر والطبيعة.

من جانب آخر، وإذا ما نظرنا إلى تطور المفاهيم التي أصبح يمثلها الأمن، أي المفاهيم التي أصبحت تُعتبر كمتغيرات أمنية، يمكننا النظر إلى تطور الأساليب التي كانت معتمدة من اجل تحقيق الأمن، والتي كانت في الغالب تعتمد على الوسيلة أو الأداة الدبلوماسية، أو على الحروب كوسيلة للإكراه المادي والمعنوي (فرض الأمر)، فقد طرأت على الأمن العديد من التحولات الجذرية؛ والتي من بينها إفرازات العديد من الأبحاث العلمية للعديد من النظريات المهمة مثل ميكانيكا الكم (Quantum Mechanics) الذي يعد العالمان في مجال الفيزياء نيلز بورن (Niels Bohr) وماكس بلانك (Max Planck) من الأوائل الذين طوروها، والنظرية النسبية (Theory of Relativity) - النسبية العامة/الخاصة (Special relativity -General relativity) للعالم في الفيزياء النظرية (Theoretical Physics) البرت أينشتاين (Albert Einstein)؛ فالتركيز على هذه النظريات فقط لا يتعلق بأسباب نظرية، سياسية، ومجتمعاتية، مثل ما هو الحال مع نظريات العلاقات الدولية، وإنما هو لأسباب تتعلق بالنتائج العلمية والاختراعات الثورية التي سببتها خاصة فيما يتعلق ببعض الاختراعات التي تهمنا في مجال الأمن مثل اختراع الترنزيستور(Transistor) سنة 1925؛ يقول العالم في الفيزياء النظرية وعلم المستقبليات (Futurist) والتبسيط العلمي (Popularizer of Science / Vulgarisation Scientifique) والمتخصص في نظرية الأوتار(String Theory) في جامعة نيويورك ميتشيو كاكو (Michi Kaku)، في عرض على منتدى الأفكار الكبيرة (Big Think) (منتدى يقيم مقابلات مع شخصيات معروفة):

"أنا فيزيائي وبعض الأشخاص يسألونني، ماذا قدمت لي الفيزياء مؤخرا ... وفي الحقيقة فنحن الفيزيائيون اخترعنا الترنزيستور، وساعدنا على اختراع الحاسوب واسعة الليزر، وساعدنا على بناء الأنترنت ... بالإضافة إلى هذا ساعدنا على اختراع الوسائل السمعية البصرية، والراديو، والرادارات، والأشعة الطبية على مختلف أشكالها... بكلمة أخرى، تقريبا كل شيء تراه الآن في الغرفة التي أنت جالس فيها، أو تراه في المستشفى؛ يمكن تعقبه إلى فيزيائي ساهم في تطويره في مرحلة من المراحل".

فميتشيو يرى أنه من أجل معرفة المستقبل، عليك أن تفهم الفيزياء، كون الفيزياء تمثل الأساس لكل التقنيات المعاصرة أو كما يسميها العصر التكنولوجي (Technological Age)، ومن جانب آخر وفي نفس هذا السياق عبر العالم الموسوعي غاليليو غاليلي (Galileo Galilei) في كتابه الفاحص أو المُجرِب (The Assayer) الذي نشر سنة 1623 والذي يتكلم في جزء منه على الفلسفة والرياضيات، حيث قال:

"الطبيعة هي كتاب مكتوب بلغة الرياضيات".

فالعلاقة بين الطبيعة والرياضيات كانت موجودة ولكنها ترسخت بشكل أكبر مع تطور التقانة وانعكس هذا التجاذب بين الحضارة والحياة الإنسانية مع هذه التطورات العلمية على طريقة عيش الإنسان على كافة المستويات، خاصة منها ذهنية الإنسان؛ ففي عرض نفسي مصور (Psychological Thriller) يسمى بـ بيي (Pi)، والذي عُرض لأول مرة سنة 1998، وكاتبه هو دارين آرنوفسكي (Darren Aronofsky)، تصرح أحد الشخصيات، وهي شخصية ماكسيميليان كوهين (Maximillian Cohen) بهذه المقولة وهي:

"أحدد المسلمات لدي: أولا، الرياضيات هي لغة الطبيعة. ثانيا، كل شيء من حولنا يمكن التعبير عنه وفهمه عن طريق الأرقام. ثالثا، ولهذا السبب، لو عرضنا أي نظام رقميا وبيانيا، تظهر الأنساق. هناك أنساق في كل مكان في الطبيعة. (في إشارة على أن كل ما يوجد في الطبيعة له أنساق معينة ويمكن فهمها لو اكتشفنا الأرقام اللازمة، مثل ما يرمي إليه ما يسمى بتأثير الفراشة(ButterflyEffect)".

بشكل عام توضح مثل هذه الأفكار تطور الذهنيات والتصورات، التي أصبح يفكر بها الإنسان مع بداية تغير نمط عيشه، وبداية ميوله، واعتماده أكثر فأكثر على التقانة من أجل تسيير حياته. وهذا بطبيعة الحال انعكس واثر بشكل مباشرة على مفهوم الأمن وغير العديد من الاعتقادات التقليدية للأمن من عدة زوايا، كون هذه التطورات التقنية وضفت بشكل مباشرة من أجل تحقيق أو الحفاظ على الأمن بصيغته التقليدية، والموسعة؛ خاصة بعد ظهور بما يمكن تسميته برقمة الأمن (Digitalization of Security) أو رقمة الحياة الإنسانية، ويتكلم بهذا الخصوص (رقمنة الحياة الإنسانية) العالم في الفيزياء النظرية ستيفان ويليام هوكينج (Stephen William Hawking) حيث يقول:

"أعتقد أنه يجب اعتبار الفيروسات الحاسوبية وكأنها حية(حياة). أعتقد أن هذا يعطينا نظرة عن الطبيعة البشرية إذ أن الشكل الوحيد من الحياة التي قمنا بخلقها (إنشائها) حتى الآن هي وإلى حد بعيد مُدمِرة بحتة. لقد قمنا بخلق شيء على صورتنا".

انطلاقا من هنا يمكننا أن نعرف بأن التقانة أصبحت توظف كأداة للإكراه الآخر، ووسيلة لتسيير الحياة البشرية، فالتطور التقني فرض نفسه على مفهوم الأمن وجعل منه، من أبرز محركات السياسة الدولية؛ فرغم أنه لن نرى مسائل أخلاقية تطرح على المستوى العلمي والتقني إلا نادرا مثلا ما هو الحال مع مسألة الحتمية (Determinism) (Fatalism) والتي يمكن أن نلخصها في مقولة ألبرت أينشتاين:

" إن الله لا يلعب بالنرد "

واتجاه أوائل منظري ميكانيكا الكم ضد هذا الطرح والذي يؤمن باللاحتمية (Indeterminism) والذي حاول أن يفندها الفيزيائي والفيلسوف النمساوي إرفين شرودنغر (Erwin Schrödinger) في طرح فكاهي يحمل اسمه، وهو طرح يسمى بـ قط شرودنغور (Schrödinger Cat). إلا أنه وبسبب ما يسمى بالتخصصات المتداخلة أصبح من الممكن التعاطي مع الدراسات الأمنية والعلاقات الدولية والتطورات العلمية بطريقة متكاملة، وذلك من أجل فهم أفضل وأعمق للظاهرة الأمنية عبر تفكيكها بطريقة أعمق، ومحاولة إيجاد مختلف الأعصاب التي تقوم عليها الظاهرة الأمنية.

كأحد التحولات والأشكال التي أصبحت تشكل أحد جوانب الأمن حاليا، وخاصة بعد تحول مفهوم الأمن من الطرح التقليدي، إلى الطرح الأوسع؛ يمكننا أن نتكلم على الأمن السبراني أو الإلكتروني (Cyber Security) الذي يعد كأحد أبرز فروع ومتغيرات الأمن والصراع الدولي المعاصر، فهناك العديد من النظريات السياسية التي اعتبرت الأمن كأحد أهم محددات الصراع بين الدول مثل ما هو الحال مع النظرية الواقعية، وقد عملت هذه النظريات على تقديم أجوبة على الأسئلة التي تطرح حول الأمن، وحاولت التأقلم مع مختلف التحولات التي فرضتها المستجدات الدولية، هذه التحولات طرأت أيضا على ما كان يمثله الأمن الإلكتروني، فرغم أن أنظمة الأمن الإلكتروني كانت موجودة حتى أثناء الحربين العالميتين إلا أنه ينظر حاليا إلى الأمن الإلكتروني بطريقة جدا مختلفة على التي كان عليها، وأصبح معمولا به على مختلف مستويات الحياة الإنسانية حاليا؛ فإذا كانت الفلسفة تعد أم العلوم، فالسيبرنيتيكية يمكن النظر إليها على أنها البيدق الأول في سلسة طويلة مع الاكتشافات، والطروحات الفكرية والنظرية، التي جعلت من الأمن الإلكتروني كظاهرة جديدة، جمعت بين الأنثروبولوجيا، والعلوم التطبيقية، وجعلت من الأمر حقيقة لا بد من التعامل معها بجدية من أجل الاشتراك في اللعبة الدولية.

فالأمن الإلكتروني، يشير إلى عالم أكثر تعقيدا، ويشير أيضا إلى التأثير المتزايد للتقانة في مجال التنظير في العلاقات الدولية، إذ يمكننا رؤية حدوث تقارب بين العديد من النظريات والطروحات مثل ما هو الحال مع حوار المنظورات (Inter Paradigm Debate)، في إشارة واضحة إلى أن التحولات التي طرأت على الأمن وقضايا الهيمنة والتنظير في العلاقات الدولية أصبحت تعد أكثر تعقيدا، فالنظريات أصبحت أكثر تقبلا للأفكار الأخرى والمواقف التي كانت ترفضها من قبل بشكل قاطع؛ فمثل هذه التحولات التي مست مختلف المجالات العلمية، فرضتها التطورات الكبيرة الذي حدثت في مختلف المجالات، هذا إلى جانب ما فُرض أيضا من قبل المدخلات الدولية والمجتمعاتية، وبهذا أضحى من الصعب فعلا تقدير ما يحدث وما يجب أن يكون، بدون أخذ نظرة شاملة عن ما يمثله الأمن الإلكتروني ومجمل ارتداداته وإفرازاته. فلو تكلمنا على الحروب الحديثة سنجد أن الأمن الإلكتروني اصبح يطغى بشكل كبير على عدة جوانب الحروب الحديثة مثلما هو الحال مع العتاد واللوجستية والأسلحة، كما أصبح بمثابة الحاجز الوحيد أمام أقنية الهيمنة العالمية التي تستند إلى القاعدة الإلكترونية والرقمية من أجل تحقيق السيطرة والهيمنة على الآخر، كما يجب النظر إلى أن بروز الأمن الإلكتروني، وأن الإمكانيات نفسها التي يمكن استخدامها من اجل الهيمنة العالمية، أو محاربة هذه الهيمنة، أصبحت على مستوى السلم الافتراضي والشبكي، متاحة للجميع ومعممة، ويمكن لأي شخص أن يستخدمها إذ توفرت لديه المعرفة اللازمة، الأمر الذي يوحي لنا بشكل واضح على أننا أمام شكل جديد من الحروب والصراعات والنزاعات والهيمنة، ويدفعنا في نفس الوقت إلى طرح العديد من التساؤلات في موضع الأمن الإلكتروني من واقع اليوم.

شكرا على مروركم،