أحلام منتصف الطّريق
صهيب أيوب
أحد مقاهي الشارع في القاهرة
كلّ أحلامي مبتورة. بدءاً من أول يوم قرّرت فيه مغادرة بيت أهلي في التّاسعة. فوجدتني في نصف الطّريق داخل حقل. ولم أصل. كان الشّيء الذي أتخيّله كطفل يحلم بمكان بعيد له أشبه بعادة لم تستمر إلا في الخيال. جاءت يد جارتنا يومها وأقفلت عليّ النّصف الآخر. وكان كلّ شيء في منتصف الطّريق منذ ذاك اليوم. والآن وبعد أن تجاوزت التّاسعة والعشرين من عمري، أفكر أن المنتصف هو أيضاً مصير الحالمين مثلنا. فلا يجوز لنا أن نمشي إلى النّهايات في الأحلام وإلا سلكنا طرق الشياطين، كما تقول العرّافة.
ولأن أحلامي ضئيلة نسبة إلى أقراني من الأصدقاء، كنت أحلم أن أعيش في مدن أخرى. أجمع صورها في لابتوبي وأراكمها. وأضع خططاً للسّفر لم تحصل إلا متأخرة. وتضاءلت هذه الأحلام مع الزّمن، أمست كجسد منخور ومتهالك. إلا حلم واحد بقي ولا زال يتحدّى الوهن والرّاهن من الظّروف. يغيب ثم يعود أحياناً في كوابيسي ونومي الخفيف أو عند استلقاء مفاجىء. يذكرني أن لي بيتاً في مكان ما في هذا العالم أنا الذي أعيش كطائر وحيد، حاملاً سقفي على ظهري كسلحفاة بطيئة.
حلمي كان بسيطاً وتحوّل مع الوقت إلى استحالة، أو هكذا هي أقدار بلادنا المنهوبة للعنف. حلمت أن أعيش في القاهرة أو الإسكندرية أو في دمشق أو حلب. أن يكون لي بيتاً في حارة صغيرة مع شرفة فيها شجرة حامض صغيرة. وبركة ماء تسبح فيها سمكات ذهبيات. ومطبخ ببورسلان فيروزي أعلق فيه الثّوم وصرر الباذنجان المجفّف والتين. وتخرج منه روائح المقالي عند الظّهيرة ورائحة السّمن الحموي مع ماء الزّهر وأنا أعد معمول الجوز. أن أفرح كلّ يوم بكأس عرق من بلدة كسب السورية أو نبيذ من البقاع اللبناني وأدلّل نفسي بالكتابة ملوحاً لجيران الرضى. قبل أن أجاور في غربتي الفرنسية جيراناً صامتون. يملكون خطوات متأنيّة تكاد تظنّ أن البناية مهجورة ولا أنس لها. وأنهم حين يظهرون على هيئة بشر يتخلّون عن أشباحهم. أراهم مرّة كلّ عام أو في مصادفات نادرة. حتى أن بنايتنا لا رائحة تميّزها. ولا تخرج من شققها روائح الأكل ولا الشّواء ولا تسمع منها الطرطقة. إنها مقابر صغيرة تسمى مساكن ما بعد الانشغالات الجمّة واللقاءات الباردة.
كنت أحلم أيضاً في هذا العيش اليومي أن أترك جرناً للكبة متأهباً للحمة النية الطازجة قرب باب الصالون. أعركها مع الحبق والبصل الأحمر وأزرع شتلات النعناع والبندورة وأترك نباتات القرطاسيا والمحكمة وزهور القرنفل تعربش إلى شرفات الجيران الذين يتضاحكون ويكثرون من شواء الكفتة والبصل. أن يرسلوا لي صحن البابا غنوج وأن أبادلهم بالكبة النية. من باب الودّ.
أن أركن في الصالون منقلاً لركوات القهوة الشتائية واستغني عن ماكينة الأسبرسو وجلبتها المتكررة. أن أنزل إلى مقهى شعبي صغير، يبث الراديو في زاويته أغاني أم كلثوم ووردة وفيروز وصباح ونجاح سلام. أن أجلس كما كان يفعل حنا مينا أو الماغوط أو نجيب محفوظ أو عم خيري شلبي أو إبراهيم أصلان. أكتب وحولي جلبة النّاس وصراخهم وطرقات النرد بين أياديهم وخبطات أصابعهم الصغيرة وهم يدندنون: بعيد عنك حياتي عذاب، ما تبعدينش بعيد عنك. إلا أنني أجلس بين حطام أناس يستخدمون المقهى كاستخدام اللاشيء في عزلات الوحدة القاسية أو مسايرات لا طائل منها. كأن المقهى في فكرته، مجرد مكان بارد.
كنت أحلم ببحر وطيف وبيوت وحارات وناس ملأى بالضحكات. كنت أحلم بهذا وبحبّ وافر. لكني أنتمي الى جيل يحنّ للعيش في بلاد لا تحبه ومتوحّشة وأزقتها تتوسخ وبحرها ملوّث وهواء مدنها خانق وأرواحها تذوي. إنها بلادنا، بلاد المهانة والذلّ والشّقاء، على ما كتب يوماً محمد أبو سمرا.
ها أنا أعيش في مدن المنافي. في منتصف الطّريق محاولاً هذه المرّة العبور. متلفتاً حولي، لا يد الجارّة هنا ولا العرافة ولا الحنين. ها أنا وحدي حرّ أمشي الطريق بلا حلم.
Posted from my blog with SteemPress : https://www.nafhamag.com/2018/08/24/%d8%a3%d8%ad%d9%84%d8%a7%d9%85-%d9%85%d9%86%d8%aa%d8%b5%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d9%91%d8%b1%d9%8a%d9%82/